انتحي بي «محمد هاشم» جانبا بينما كنت أهم بالخروج من دار ميريت وقال: «دول من أحسن الحاجات اللي طلعناها في الفترة الأخيرة» وفي يده كانت روايتين صغيرتين أخذتهما وشكرته وانصرفت وفي الطريق رحت أتصفحهما كانا «وداعا أيتها السماء» لحامد عبد الصمد و«الباخرة كليوباترا » لمحمد معروف وكلاهما عمل أول وأنا إعشق الأعمال الأولي وإعتبرها وحدة الخلق الأولية التي تحتوي علي كل جينات الكاتب والتي سوف تتطور فيما بعد وبالنسبة لي فإن مفتاح قراءة أي كاتب مهما بلغت محطاته الإبداعية وتعددت أعماله هو كتابه الأول أو فيلمه الأول أو مسلسله الأول - بحكم ولائي للدراما المصورة- وبمجرد أن تحرك غلاف الباخرة كليوباترا حتي انطلقت منها أصوات تسعة شخصية يشكلان تسعة عشر فصلا هما البدن الرئيسي للرواية وتراجع بروية الشارع «والبروية بلغة السيناريو هو أصوات المكان الطبيعية الذي يدور فيه المشهد» وعلا حكي الشخصيات وبدأت الرواية في السرد من قبل أن أبدأ أنا في القراءة «وهي لحظة فانتازية بالطبع لا يعاني منها إلا مدمنو القراءة أمثالي الذين يتصورون أن أحداث الكتاب تتم طوال الوقت حتي وهو مغلق دون قراءة فتتآكلهم الرغبة في الإسراع للدخول فيه والتهامه» ولكن بينما أحاول إقناع شخصيات الرواية بتأجيل الحكي قليلا عبر ممارسة طقس تحسس غلاف الكتاب ومغازلة لوحته الخارجية وقراءة الكلمات المكتوبة علي البوابة الخلفية إذ بي أكتشف التنويه المكتوب في الصفحات الأخيرة والذي أعترف أنه أفقدني حاسة من حواس التلقي كنت أحب أن تظل ناشطة طوال الوقت الذي سوف أستغرقه في قراءة العمل وبما أنني لم أستسغ هذا التنويه فلن أكلف نفسي عناء الاحتفاء به عبر الكتابة عنه حتي لو بشكل سلبي يكفي أنه لم يمنعني من قراءة الرواية في ليلة واحدة جالسا أستمع إلي أصوات الشخصيات وهي تروي تلك المغامرة الغريبة والتي تشبه مجموعة دوائر متداخلة لكنها محيطاتها متماسة وبعض أقطارها متشابكة حتي لا تدري أيهم قطر أصغرهم وأيهم يخص أكبرهم وأجمل ما في تلك -الرواية- الدوائر المتداخلة هو أن مساحة الفانتازيا التاريخية فيها غير محدودة والفانتازيا التاريخية ببساطة هي تأليف عمل درامي علي أرضية تاريخية يحتوي علي شخصيات مؤلفة ضمن الإطار التاريخي للأحداث وكلما اتحدت تلك الشخصيات الموضوعة مع الخلفية التاريخية وأصبحت أكثر حياة حتي لا تفرقها عن التاريخ الأصيل كلما توغلت الرواية في «وجداناتك» العديدة وبالنسبة لي فأنا أعتبر أن الدراما التاريخية أو الفانتازيا التاريخية هي أصل الكتابة الدرامية في العالم - منذ هوميريوس حتي الآن - وهو رأي قد يختلف أو يتفق معي فيه البعض فاستلهام الأحداث الواقعية- آنية كانت أو تاريخية- وإعادة دمجها في الواقع الدرامي الافتراضي والمؤلف هو أصل العملية الدرامية التي يقوم بها أي كاتب حتي لو علي مستوي التاريخ الفردي لكل شخصية من شخصياته وليس فقط علي مستوي التاريخ الكلي للبيئة التي يكتب عنها والكاتب في وضعه للشخصية الدرامية يتحدث دوما عن تاريخ الشخصية أي الرحلة التي استغرقتها في تشكيل أبعادها الأساسية «الاجتماعي والنفسي والشكلي» وهذه النظرية الخاصة هي ما يجعلني دوما أستمتع بهذا النوع من الروايات «الفانتازية» وأغفر لها خطاياها السردية كحيادية اللغة أو عدم وجود فوارق بين أصوات الشخصيات في الحكي فكلها تتحدث بصوت الكاتب أو غياب عمق الدلالة لصالح الحدث والمغامرة.